فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي دعق أيضًا إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلبًا أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه الوجه الثالث: الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى: {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [النساء: 95] والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] مع أنه تعالى قال: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] فأشار إلى الثبات العظيم.
وقال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45] فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بثبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضًا يدل عليه، إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها هاهنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث، ومنها في قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17] فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم، ثم إذا عرف هذا وقيل للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر؟ يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله: {حَبْلِ الوريد} [ق: 16] {والدى عَتِيدٌ} [ق: 23] وقوله: {بِجَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] يناسب القعيد، ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع، وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه، وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعًا للفظ، والله تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي، وفائدة أخرى في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11] فإن قوله: {فافسحوا} إشارة إلى الحركة، وقوله: {فَانشُزُواْ} إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه.
المسألة الثالثة:
{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} وجهان أحدهما: مقعد صدق، أي صالح يقال: رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد، وقد ذكرناه في سورة: {إِنَّا فَتَحْنَا} في قوله تعالى: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} [الفتح: 12]، وثانيهما: الصدق المراد منه ضد الكذب، وعلى هذا ففيه وجهان الأول: مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله الثاني: مقعد ناله من صدق فقال: بأن الله واحد وأن محمدًا رسوله، وحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه، يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئًا فهو مقعد صدق وكلمة {عِندَ} قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان، وقوله تعالى: {مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتدارًا كان المتقرب منه أشد التذاذًا وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك، فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه، مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه، والله تعالى قال: {مُّقْتَدِرٍ} لا يقرب أحدًا إلا بفضله.
والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه. اهـ.

.قال القرطبي:

الثانية: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} قراءة العامة {كُلَّ} بالنصب.
وقرأ أبو السَّمَّال {كُلُّ} بالرفع على الابتداء.
ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين؛ لأن إنّ تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدلّ على العموم في المخلوقات لله تعالى؛ لأنك لو حذفت {خَلَقْنَاهُ} المفسِّر وأظهرت الأوّل لصار إنا خلقنا كلّ شيء بقدر.
ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرًا لما يعمل فيما قبله.
الثالثة: الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدّر الأشياء؛ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره؛ كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدَريّة وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا.
قال أبو ذَرٍّ رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا؛ فنزلت هذه الآيات إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: «أنتم خصماء الله يوم القيامة».
الرابعة: روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مجوس هذه الأمة المكذّبون بأقدار الله إن مرِضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم» خرجه ابن ماجه في سننه.
وخرج أيضًا عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقَدَر» وأسند النحاس: وحدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدّثنا عقبة بن مكرم الضّبي قال حدّثنا يونس بن بكير عن سعيد بن ميسرة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القدَريّة الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم منّي». وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر، ثم أكد هذا بقوله: والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقَدَر.
وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54] وهذا واضح.
وقال أبو هريرة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن».
قوله تعالى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ} أي إلا مرةً واحدة.
{كَلَمْحٍ بالبصر} أي قضائي في خلْقي أسرع من لمَحْ البصر.
واللَّمح النظر بالعَجَلة؛ يقال: لمَحَ البرق ببصره.
وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمَحَ البَرقُ والنجمُ لمَحًْا أي لمَع.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية.
وقيل: أتباعكم وأعوانكم.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي من يتذكر.
قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبًا عليهم؛ وهذا بيان قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
{فِي الزبر} أي في اللوح المحفوظ.
وقيل: في كتب الحفظة.
وقيل: في أم الكتاب.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله؛ سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا كَتَب؛ واستطر مثله.
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضًا.
{وَنَهَرٍ} يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللّبن؛ قاله ابن جريج.
ووحد لأنه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبىء عن الجميع.
وقيل: في {نَهَرٍ} في ضياء وسَعة؛ ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح؛ قال الشاعر:
مَلكتُ بها كَفي فأنهرتُ فَتقَها ** يَرَى قائمٌ من دونها ما وراءَها

وقرأ أبو مِجْلَز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرِّف وقتادة {وَنُهُرٍ} بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم؛ كسحاب وسُحُب.
قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إِنْ تَكُ ليليًّا فإنِّي نَهِرُ ** مَتَى أَرى الصُّبحَ فلا أَنتَظِرُ

أي صاحب النهار.
وقال آخر:
لَوْلا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنا بالضُّمُرْ ** ثَرِيدُ ليْلٍ وثَريدٌ بالنُّهُرْ

{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} أي يقدر على ما يشاء.
و {عِنْدَ} هاهنا عندية القُربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة.
قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
وقرأ عثمان البَتِّي {فيِ مَقَاعِدِ صِدْقٍ} بالجمع؛ والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها.
قال عبد الله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرؤون القرآن على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدرّ والياقوت والزبرجد والذّهب والفضَّة بقدر أعمالهم، فلا تَقَرّ أعينهم بشيء قط كما تَقَرّ بذلك، ولم يسمعوا شيئًا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد.
وقال ثور بن يزيد عن خالد بن مَعْدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا؛ فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بُغْيتنا.
فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى؛ ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون إلى الجنة.
فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا؛ فيقولون: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ}.
والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّا كُلَّ شَيْء} من الأشياء {خلقناه بِقَدَرٍ} أي مقدرًا مكتوبًا في اللوح قبل وقوعه، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف، وروى الإمام أحمد. ومسلم. والترمذي. وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 48، 49]» وأخرج البخاري في (تاريخه). والترمذي وحسنه. وابن ماجه. وابن عدي. وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» أنزلت فيهم آية في كتاب الله {إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ} [القمر: 47] إلى آخر الآيات، وكان ابن عباس يكره القدرية جدًا، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس وقد ذكر القدرية يقول: لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال: الزنا بقدر والسرقة بقدر، وشرب الخمر بقدر.
وأخرج عن مجاهد أنه قال؛ قلت لابن عباس: ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال: أجمع بيني وبينه قلت: ما تصنع به؟ قال: أخنقه حتى أقتله، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم».
وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرًا محكمًا مستوفى فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب {وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ونصب {كُلٌّ} بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه.